التاريخ لا تصنعه الصدفة… فالتاريخ هو الشاهد الوحيد على تراكم حضارات الشعوب وحكمة الأجيال وهو الحافظ الأمين لذاكرة الأمم وعراقة الشعوب.. في سباق الزمن هناك لحظات تاريخية تتجلى فيها عبقريات من صنعوا أمجاد الأمم وأيقظوا قواها الكامنة ورسخوا أصالتها.
سورية وانطلاقاً من موقعها الجيوسياسي لا يمكن عزلها بأي حال من الأحوال عن دائرة الصراع والمنافسة التي يمكن من خلالها رصد سياسات الدول الكبرى في المنطقة والعالم، وهي بموقعها الاستراتيجي أولاً وغناها الحضاري والفكري والسياسي ثانياً بوصفها طليعة الحركة العربية القومية ومنبع الأفكار السياسية والمولدة لها؛ أمسكت بقبضة حديدية مفاتيح قوى الموازين العربية والدولية.. ليس من قبيل المبالغة القول إن كل الطرق تؤدي إلى دمشق، فإليها ومنها تصدر كل الأزمات الدولية الخطيرة.
لهذا كله سارعت الدول الغربية إلى محاولة تطويق سورية واحتوائها وإدراجها ضمن مشاريع الأحلاف العسكرية والسياسية التي تصب في نهاية الأمر بمصلحة الاستعمار الغربي.
لتدخل سورية ضمن دائرة التجاذبات ومحاولات الاستقطاب المتعددة الخارجية منها والداخلية بين مختلف القوى الوطنية والقوى المرتبطة بها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
في المرحلة الممتدة من عام 1963 وقيام ثورة الثامن من آذار في العام نفسه وحتى قيام الحركة التصحيحية العام 1970 مرت سورية بفترة عصيبة شهدت الساحة السورية خلالها صراعات بين الأحزاب والحركات القومية والعقائدية مثلما تفاقمت الصراعات الداخلية داخل حزب البعث العربي الاشتراكي، ما أدى إلى تراجع الاهتمام بتحسين البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية والتنظيمية، الأمر الذي دفع القائد حافظ الأسد آنذاك إلى القيام بالحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني عام 1970 وهي الحركة التي أعادت الحزب إلى وجهه الجماهيري ومكّنت سورية من القيام بدورها القيادي في الوطن العربي، ودورها المؤثر والبارز على الساحة الدولية.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت سورية بتركيز دعائم الاستقرار من خلال تأسيس مؤسسات الدولة لكي تقوم بدورها فيما يتعلق بالتنمية والتطور من خلال ترسيخ دور هذه المؤسسات وتطوير الاقتصاد الوطني والقفز به خطوات واسعة إلى الأمام في ظل أوضاع سياسية مستقرة وديمقراطية حيث وضعت الحركة التصحيحية دستوراً دائماً للبلاد بعد أن كانت تعيش في ظل دساتير مؤقتة وحددت في هذا الدستور العلاقة بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى مستوى البناء الشعبي تم انتخاب برلمان ومجالس شعبية في كل قرية وكل مدينة تحقق مشاركة شعبية من جميع الجهات في تجربة الحكم المحلي كما تم تشكيل جبهة وطنية تقدمية تمثل تحالفاً بين جميع الشركاء في بناء الوطن دعماً للجبهة الداخلية السورية.
ولأن بناء الوطن يجب أن يرتكز على أسس واضحة راسخة كانت الأولوية لأداة ومنتج هذا البناء، وهو الإنسان، على اعتباره غاية كل تنمية والعامل الحاسم في أي تقدم اقتصادي أو اجتماعي.
ومن الإنسان السوري كانت بداية الإنجاز والازدهار، فكانت معركة البناء والتحرير من خلال استلهام جميع الطاقات والإمكانات.. وبدأت عجلة التحديث الزراعي تدور بمنهجية وأهداف استراتيجية تمثلت بانتشار السدود على امتداد جغرافية الوطن.. فشهدت البلاد نهضة زراعية متميزة عن كل دول المنطقة.. مثلما علت في كل مكان صروح المصانع والمعامل وامتدت الطرق الحديثة لتغطي خارطة الوطن، وأصبحت الكهرباء متوفرة في أنأى بقاع الريف السوري، وانتشرت المدارس والجامعات والمعاهد لتشمل كل المحافظات السورية لتغطية كل احتياجات التعليم النظري والمهني والتخصصات التقنية العليا ليصبح العلم بمتناول جميع شرائح المجتمع وبالمجان.
ولأن بناء العقل السليم في الجسم السليم كان الاهتمام بالقطاع الصحي من خلال بناء المستشفيات والمراكز الصحية التي تقدم الطبابة والرعاية الصحية بالمجان، أما الرياضة التي تعد مقياساً للتطور الاجتماعي فكان لها اهتمام كبير حيث قامت أهم وأحدث المنشآت الرياضية التي تضاهي أكثر صروح الرياضة في العالم تقدماً.
اقتصادياً.. جاءت الحركة التصحيحية بمنهج اقتصادي جديد يعتمد على فلسفة تعدّ الأولى بالنسبة للعالم الثالث وهي التعددية الاقتصادية التي شكل القطاع العام عمودها الفقري، وبفضل التعددية الاقتصادية استطاعت سورية أن تصمد في وجه الأزمات الاقتصادية بجهودها الذاتية دون أن تأخذ أي قرض من البنك الدولي أو أية جهة أخرى تتضمن في مقابلها تنازلاً سياسياً.
ومن خلال بناء الإنسان السوري المؤمن بسيادة قراره السياسي والعسكري كان الاهتمام ببناء الجيش العربي السوري العقائدي ورفع جاهزيته الفكرية والتقنية وامتلاك ناصية الفنون العسكرية المتطورة، ما أسّس للانتصار التشريني الذي اعتبره كبار السياسيين والمفكرين في العالم أحد أهم إنجازات تشرين التصحيح..
ميساء نعامة
تم نشر هذا المقال في مجلة الأزمنة بتاريخ 29/03/2014